بعد أن انتقلت الحداثة، بالإنسان من الارتكاس واليأس إلى مرحلة غنية بالحركة والأمل، نقلها الإنسان في وعيه ومسارات تفكيره لتثبيت ركائزها كأساس حضاري فاعل في المجتمعات الإنسانية على اختلافها. وفي الالتفات للأسس النظرية التي تنبني عليها الحداثة، وبخاصة تلك الملامح المفصلية التي جلبتها «رياح التغيير» في أواسط المجتمع الغربي من خلال النظريات الفلسفية الحديثة، سواء الديكارتية، أو الكانطية، أو الهيغلية، فإننا نلحظ الإرهاصات الدقيقة للحداثة كمفهوم، ونظرية، ودلالات منعكسة على الواقع.
وفي تمييز ما يسمى ب «عصر الأنوار» عن غيره كبيئة نشوء وترعرع لتلك الحداثة، فقد تميز بالعديد من العوامل التي يمكن القول بأن توفرها في أي بيئة، أو وسط اجتماعي يشكل عماداً رئيسياً و«مخاضاً» للتحول الجديد، سيما مع مرافقته العديد من العوامل والظروف التي فرضتها الحداثة الآنية ولو كانت لا تزال في مراحل متأخرة نوعاً ما في بعض الأوساط، ففي النظر للعقلانية، المقصية لل«ميتافيزيقا»، والمرحبة بالنظم الواقعية، فقد شكلت إطاراً جوهرياً لابد من إعماله، بحيث تتداخل تفرعاته في هيئة واقع ملموس في مؤسسات المجتمع، ووضع استراتيجياته، وتحقيق مبادئ حياديته ونزاهته، وذلك من خلال سحب «الفرض السلطوي» عليه فهو غير مجبر على التأثر بنزعات تبعده عن مساره الاستثماري الحقيقي في إنجاح وتحقيق الحداثة، مما يعني تحقيق مبادئ «منزوعة الوصاية»، تعمد للعقل بمعايير واضحة. وفي ذلك لابد من مراعاة إيجاد التفسير «المعقلن» لألفبائيات المكنونات الاجتماعية، من مظاهر اجتماعية، وسلوكيات مستجدة، أو متوارثة، وإيراد خلاصات موجهة من العقل إلى العقل تجيب عن تساؤلات التاريخ، والتقدم الإنساني، أو التراجع من خلال عمليات مفاهيمية قابلة للتناغم مع الواقع والمنطق، وقادرة على التفاعل مع عمليات المعالجة والنقد.
Advertisements
ومن هنا استطاعت هذه الأداة المركزية من السمو على البيروقراطية والرأسمالية، فاتحة نوافذ نوعية بارزة المعالم في ملف الإدارة والاقتصاد. وقد صاحب ذلك التوجه النزوع للحداثة في كل شيء، وهجر مفاهيم القداسة المبجلة للموروثات على اعتبارها «صنماً» فكرياً لا يجوز تجاوزه أو مخالفته أو التعديل عليه من خلال النقد والتمحيص والاستفادة من التجارب البشرية التي كانت لصيقة به، إذ بدأت المجتمعات تتجه نحو «معقولية التجديد» عوضاً عن «التحجر على التجميد» للمبادئ والمعتقدات، فكانت التاريخانية، أو «التطورية» ثاني تلك العوامل الدافعة بالحداثة، بعد العقلانية، ومن هنا تشكلت الإرادة الإنسانية الدافعة نحو البناء التراكمي المعرفي والاسترسال ببناء «رسالة حضارية» تحترم الأصل وتتفرع باجتهاد وذكاء، قادرة على «الاندفاع الإبداعي» الخارج عن دائرة التهور، والمتداخل مع نبذ «رداءة التحجر»، والتشديد على حتمية التقييم والتقويم وهي التي تخدم مبدأ الدفع بالإنسانية نحو التطور وإعمار الأرض ومواكبة النهوض بها.
نتاجاً لهذا الثقل التجديدي الذي لم يعتد أن يستمع لصداه الإنسان، تفتحت مداركه ليعي بأنه صاحب حق، وأن الحداثة لا تكون دون التعامل معه كبوصلة، تحتاج لشحن وشحذ من خلال احترام حقوقه الإنسانية، والتي على رأسها كرامته المحققة من خلال حقه في المعرفة، وعدم تجميد إرادته في السعي والتعلم، والاستزادة، فهو صانع التاريخ، وأساس المجتمع، وأثر ومؤثر في بيئته المحيطة، ومرجعية لتطبيق النظريات، وانعكاس السلوك الأخلاقي، وبالتالي كافة المعاملات والتصرفات الحاصلة، والتي من خلالها يكون النتاج الحضاري.
Advertisements
بدأت تتسع دائرة الحريات الإنسانية مع الحداثة، وتوالدت مظاهر تثبيت «الشرعية الحقوقية»، وإيجاد فروع منيعة تكفل سلاسة جريان تلك الحريات دون قوى تخضعها، فكانت ولادة السلطة الرابعة (الإعلام)، التي تقوم بدور القاضي الأخلاقي على كافة مكونات المجتمع، ومنبر لتوسيع نطاق الحصول على المعلومة، ونقل هموم الإنسان لساحة «حل المشكلات»، واستثمار طاقات نقاط القوى المفوضة بالأساس لأداء مهماتها بحيث تسمح بتنفيذ «الدستور» من أداء واجبات، وقطف ثمار الحقوق.
ولا يغفل ما للعلمانية من ارتباط مفاهيمي مع الحداثة، والتي أحاطت بها العديد من الإفهامات المغلوطة، وبخاصة تلك التي تعمدت ربط العلمانية مع نزع احترام المعتقد الديني وما جاء به، ولكن الأقرب للحداثة هي تلك العلمانية، التي سمحت بسريان الأحكام السياسية وفرض إدارتها السياسية دون سلطوية جائرة «بحجة الدين»، وصون أساسات «العقد الاجتماعي» الذي يسمح بمساحة احترام بهية بين مكونات الدولة، ويحفظ عليها استقرارها ونموها، فلابد من الاعتراف بأن الحداثة أينما حلت كان هناك اتفاق ضمني مفاهيمي على طبيعة العلاقة بين الأطراف التي تفضي لوجود دولة، من احترام، وتبادل واجبات وحقوق، وتعاون، وتشارك، وتناغم.
Advertisements
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة.
Advertisements